ملخص:
يعود تاريخ بلاد دثينة إلى ماقبل القرن السابع ق.م ، حيث كانت ضمن أراضي مملكة أوسان، ثم صارت لاحقاً تحت نفوذ مملكة قتبان، وفي العصر الإسلامي نالت قبائلها شهرة ومنها قبيلة النخع التي كان لأبنائها سابقة محمودة في الفتوحات لإعلاء راية الإسلام؛ أما في اليمن فالحق إن نشاط قبائل دثينة لم يذكر في المصادر إلا في القرن السابع الهجري وتحديداً إبان قيام الدولة الرسولية سنة 626هـ، حيث ظهر اسم قبائل الجحافل الدثنية يتصدر المشهد السياسي والاجتماعي ذلك أنها تمتعت بنفوذ واسع في جنوب اليمن، وبسطت سيطرتها المطلقة على معظم أراضي المنطقة الوسطى فيما بين عدن وأبين ولحج وتخوم شبوة، بيد أن هذه المكانة التي بلغتها قبائل الجحافل عبر تاريخها الطويل قدر لها أن تواجه تطلعات الرسوليين الذين دأبوا منذ وصولهم للسلطة على فرض هيمنتهم على كل أراضي اليمن، فنشبت بين الطرفين معارك ضارية سفكت فيها الدماء وأزهقت الأنفس وأهلكت الزرع والضرع، وامتدت آثارها السلبية إلى المناطق القريبة من دثينة كعدن وأبين ولحج، والأخيرة كانت أكثرهن عرضة للخراب والسلب والنهب؛ لأنها كانت قبلة غزوات قبائل الجحافل الدثنية، فضلاً عن اضطراب الحياة التجارية بين الحين والآخر جراء قطع القبائل للطرق المؤدية إلى مدينة عدن التجارية والخارجة منها، وعلى الرغم من حجم الخسائر التي تكبدها الطرفان خلال الحرب إلا أن نتائج جل المواجهات الحربية كانت تصب في الغالب لمصلحة القوات الرسولية الأفضل تنظيماً والأكثر عدداً وعدة، ناهيك عن استغلالهم الأمثل لمكامن الضعف والخلل الذي اعترى علاقات قبائل دثينة بعضها ببعض والتي كانت أقرب إلى الخصومة والتمزق منها إلى التسامح والاتحاد .
مقــدمــــة:
تعد القبيلة المكون الأصلي للمجتمع اليمني، وقد تركز توطنها في المناطق الساحلية والتهامية، والمناطق الجبلية، وانخفض في المناطق الصحراوية، وساعدت طبيعة اليمن الجغرافية ومواردها في نمو الحياة القبلية وتطورها، وغلب على بعضها حياة التحضر والاستقرار، وأخرى طابع البداوة، وقد اعتمدت القبيلة على الزراعة والرعي كمورداً اقتصادياً رئيساً، وعمل فيها السواد الأعظم من أفرادها، فيما اشتغل قليلاً منهم في التجارة، وأدت القبيلة دوراً مهماً في تماسك المجتمع وتشكيل هويته، وأصبحت وحدة اجتماعية سياسية لايخضع إفرادها إلا لسلطة القبيلة وأعرافها وتقاليدها، واعتمدت القبيلة في بناء علاقاتها مع جيرانها على المصالح المشتركة وتبادل المنفعة، فما قطعته علاقات القربى والنسب وصلته التحالفات القبلية القائمة على مبدأ التكافل والمؤازرة عند النوازل والنوائب؛ هذه القوة البشرية المتماسكة كانت محط أنظار ساسة اليمن، وتم لهم استغلالها بالترغيب لخدمة تطلعاتهم لحكم اليمن، فكانت عاملاً رئيساً في وصول عدد من القوى إلى عرش السلطة في اليمن خلال العصر الإسلامي على وجه التحديد، بيد أن هذا التحالف المشترك بين القبيلة والسلطة ظل رهين المتغيرات السياسية من جهة، ومصالح القبيلة الاقتصادية من جهة أخرى، فقد يتغير موقف القبيلة من السلطة في حال تم المساس بمصالحها وتتحول إلى معول لدك أركان الدولة بعد أن كانت عاملاً مساعداً في قيامها، وهذا الاضطراب السياسي كثيراً ما كانت تستغله بعض القبائل للارتزاق وتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب المادية لتأمين حياة أفرادها المعيشية، ولعل قبائل دثينة موضوع بحثنا كانت إحدى تلك النماذج القبلية التي برعت في هذا المجال وذاع صيتها حتى بلغ الآفاق إبان حكم الرسوليين( ) لليمن (626 – 858هـ)، حيث شكلت غاراتها وغزواتها للمدن والقرى والطرقات تهديداً بالغ الخطورة للسلطة والمجتمع والاقتصاد، وساعدها في ذلك موطنها الذي يتوسط جنوب اليمن البعيد عن تعز عاصمة الدولة الرسولية، ناهيك عن مقوماتها القتالية الفائقة في العدة والعتاد، مما جعلها أقوى القبائل الجنوبية وأشدها مراساً وشكيمة حتى صارت أشبه بالصخرة الكئود أمام حكام بني رسول، بل حجزت لنفساها مكانة مميزة على خارطة اليمن السياسية آنذاك.
وقد تم تقسيم دراسة " قبائل دثينة في عصر الدولة الرسولية (626-858هـ) إلى ثلاثة مباحث تضمن الأول صفة بلاد دثينة وقبائلها، وكرسناه لدراسة الموقع الجغرافي لبلاد دثينة، وعددنا فيه قبائلها وبطونها، وخصصنا المبحث الثاني لغزوات قبائل دثينة في عصر الدولة الرسولية والوقعات التي دارت بينها وبين القوات الرسولية، فيما أفردنا المبحث الثالث لعرض الأسباب التي دفعت قبائل دثينة للخروج والغزو، وتضمنت خاتمة الدراسة بالنتائج التي توصل إليها الباحث؛ وتم إتباع المنهج الوصفي التحليلي، وذلك بعرض الأحداث التاريخية وتحليلها بموضوعية لاستخلاص النتائج التي تخدم البحث العلمي.
المبحـث الأول:
صفة بلاد دثينة وقبائلها
التسمية:
دثينة: بفتح أوله، وكسر ثانيه، وياء مثناه من تحت، ونون، ناحية بين عدن والجند( ). وقد اختلفت الروايات حول نسبة دثينة ومعناها، حيث يذهب الحموي( ) بأنها جاءت من كلمة (دثين) وتعني أنه إذا طار الطائر وأسرع في السقوط في أماكن متقاربة فيقال له دثين الطيور، وقد كانت هذه المنطقة مأهولة بالسكان ولكنهم تطايروا منها أي رحلوا عنها، كما يشير نفس المصدر( ) إلى رأي آخر ويذكر بأنها نسبت إلى هضبة دثين، وقد جاء ذكر هذه الهضبة على لسان الشاعر الكلابي :
وبئر در يرات وهضبة دثين سقى الله مابين الشطون وغمرة
ويذهب بعض سكان هذه المنطقة إلى أن أصل كلمة دثينة هو (دفينة) نسبة إلى مدافن الحبوب التي يدخرها أهل هذه المنطقة لمواسم الجدب والقحط التي كثيراً مالازمت هذه المنطقة منذ عهود بعيدة، وبناءً على ذلك فقد قُلبت الثاء فاءً اقتداءً بقوله جل وعلى في محكم كتابه:
" وإذا قلتم لن نصبر على طعامٍ واحد فادعُ لنا ربك يخرجُ لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ... "( )، وكلمة (فومها) في هذه الآية تعني (ثومها) والله أعلم.
وأقدم ذكر لدثينة يعود إلى القرن السابع ق. م (دثنت)، وكانت ضمن أراضي مملكة أوسان وإحدى مراكزها الهامة لتصدير المرَ، حيث ورد ذكرها في نقش النصر( ) الذي خلد فيه الملك السبئي كرب آل وتر أحداث هجومه التاريخي على مملكة أوسان والسيطرة على أراضيها بمساندة مملكتي حضرموت وقتبان، ففقدت أوسان كيانها السياسي بعد أن تم حرق مدنها وقتل وأسر الآلاف من أبناء قبائلها، وآلت أراضي أوسان إلى قتبان ومنها بلاد دثينة( )؛ وعلى الرغم من المبالغة الشديدة في حجم الخسائر التي ألحقت بأوسان المدونة في النقش إذا ماتم مقارنتها بنوعية الأسلحة المستخدمة في تلك المعركة، إلا أن هذا النقش يضل مصدراً تاريخياً مهماً في تاريخ اليمن القديم، وتكمن أهميته في هذا البحث بأنه يقدم لنا معطيات نستدل من خلالها بأن تاريخ دثينة يعود إلى ماقبل زمن تدوين هذا النقش بكثير.
صفة بلاد دثينة:
وصف الهمداني( ) معظم أراضي دثينة وحدد معالمها بدقة، فذكر أسماء جبالها ووديانها وقراها وسكانها، ومن المهم الإشارة إلى أن بعض هذه المعالم والصفات التي ذكرها المؤرخ طواها الزمن ولم تعد تحتفظ باسمها ورسمها حتى العصر الراهن، وعلى أية حال فقد بدأها الهمداني من الشمال قائلاً: " أولها عران( ) واسمه الرقب( ) لبني كتيف " وهم سكان الموشح( )، ثم واديا الحار وتاران( ) لبني قيس من بني أود ولهم قرية الظاهر( )، فأودية يرى( )، وثرة( )، وعرفان( )، والمقيق( )، والغمر( )، ثم نزل شرقاً وذكر جبل رائش( )، وأودية المعوران( )، والحميرا( )، والشرفة( )، ثم وادي حبل( ) وفيه قرية السوداء( ) للأصبحيين من حمير، والذبية( )، ومران( )، وكبران( )، ونزعة( )، وحجومة( )، وملاحة( )، والتيب( ) وهذه الأودية جميعها للنخع، ثم وادي وحر( ) لكندة، وذروعان( ) الجزع، وروضة( )، وطب، وتعمق الهمداني في الوصف فذكر وادي القرن( ) وهو لبني كليب، والعارضة( ) لسبأ ومهار( )، ومدينة الخنينة( )، ثم عرج غرباً منوهاً بأن السهل من دثينة ممايلي يرامس( ) دار الحفينات الحصن، وآخر معالمها هو الجبل الأسود( ) الذي يعد منقطع دثينة وهو للعدويين والخمسيين من حمير.
هذا هو في تقديري وصف دثينة الكبرى في زمن المؤرخ الهمداني (القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي)؛ وتبدو فيه سلسلة معالمها أشبه بقوس نصف الدائرة الشمالي. أما حدودها الجنوبية فهي دون شك سواحل بحر العرب، وهذا ما أكدته المصادر التي بين أيدينا، حيث ذكرت أن آل عزب وهم من بطون الجحافل يسكنون في جبل دار زينة المنيع( )، وهذه المنطقة تطل على بحر العرب بحسب الدراسات التاريخية الحديثة( ). وعلى أية حال فإنه تبين من وصف بلاد دثينة بأن غالب بطون مذحج قد توطنت في المناطق الجبلية، فيما حلت بطون حمير في سهلها الواسع، وهذا السهل هو الذي بات يعرف اليوم بمنطقة دثينة وهو لايشكل سوى الثلث من مساحتها القديمة، وعلى الرغم من وفرة أودية بلاد دثينة إلا أنها أرضاً جرز تسقى من جبال السرو والكور( ).
قبائل دثينة:
دثينة غائط واسع سكنته عدد من القبائل المذحجية( ) والحميرية( )، ولكل عصب منهم قرية حولها مزارعهم ومصالحهم( )، ويمكن إيجاز بطون هذه القبائل بمايأتي:
أولاً- قبائل مذحج:
1) بنو أود : بفتح أوله، وسكون ثانيه، وينتسبون إلى الصعب بن سعد العشيرة( )، وقيل أنهم أول من سكن دثينة ( )، ومن بطونها: بنو حي بن أود ومن فخائذها: زائد، وبنو شكل، وبنوسويق، وبنو شهاب بن الأرقم( )، وعمرو بن الأرقم، ثم بنو ربيعة بن أود: ولها فخذان هما: بنو أفعى، والدهابل ومنهم بني مزاحم أشراف بني أود وسادتهم( ).
2) بنو عجيب بن أزد شنوءة( ).
3) النخعيون( ).
ثانياً- قبائل حمير:
1) الأصبحيون( ).
2) العدويون( ).
3) الخمسيون( ).
ثم صارت دثينة منذ القرن الرابع الهجري تقريباً/ العاشر الميلادي تحت سيطرة الجحافل من مذحج وهي أقوى القبائل آنذاك( ) ومن بطونها:
1) آل علي : ومنهم : بنو رويس، وبنو شباحي( ).
2) آل يحيى بن علي : ومنهم : آل عزب ولهم فخائذ كثيرة هي: بنو مدقة، الأصابع، المحافزة، الشرمان، بنو مدافع، آل سالم، آل يحيى بن عمر، آل شقير، الفيزران، آل بني غانم، آل بني منصور، الأعتوق، آل وازي، آل قحيطان( ).
3) العجمان: وينتسبون للعجم، ويقال أن جدهم جاء من خراسان وحل في دثينة وولد له خمسة من الأبناء هم: قراد، وأبوالفم، وظفر، وعياش، وفياض، وشكلوا خمس قبائل( ).
4) الهياثم: نزح جدهم من المشرق، وهم من حمير، إذ يقال أنهم ليسو من الجحافل، بل سكنوا معهم ونسبوا إليهم، ومن زعمائهم : أبوبكر بن حترش صاحب حصن الفرط( )، ومنصور بن فضل صاحب الحافة( )، وقيس بن محمد( ).
وفي دثينة قبائل أخرى ينتسبون إلى الجحافل اسماً بينما أصل أجدادهم من المشرق، وهم بدو من حمير منهم من يسكن دثينة ومنهم من يسكن أبين ومنهم من يسكن فيمابين دثينة وأبين( ) وهم: بنو علي، وآل أبا الروث، وبنو أيوب، وآل جعيملان، وآل أبا الليل، والغدريون، والعلهيون، والنخعيون، ثم العجالم( ) وهو كما يبدو لقباً أشتهروا به، فهم في الأصل يرجعون إلى بني أيوب في دثينة ومنهم: بنو سالم، وآل عبدالله، والركابة، والعمريون( ).
المبحث الثاني:
خروج قبائل دثينة على السلطة الرسولية:
تعد قبائل دثينة من أكثر قبائل اليمن التي شكلت قلقاً وصداعاً مزمناً للسلاطين الرسوليين إبان حكمهم لليمن، وكان أول خروج لقبائل دثينة عليهم قد حدث في عهد السلطان المظفر يوسف بن عمر (647- 694هـ) وتحديداً في سنة 660هـ ، حيث تقدم إليهم بنفسه على رأس الحملة، وعلى غير العادة لم يوكل هذه المهمة لأحد الأمراء، مما يوحي أنه كان على علم بمكانة هذه القبائل وقوة شكيمتها وبأسها، لذا بادر بالتقدم إليها ليكسر شوكتها بنفسه، وهذا ما حدث بالفعل, حيث دخل بلاد دثينة وتمكن من قتل جماعة منهم, فيما استسلم بقيتهم ونزلوا عن خيلهم مظهرين الطاعة( )، وعلى إثر هذا الانتصار الذي حققه المظفر قام الشعراء بتهنئته بعدد من القصائد منها ما جاءت عن لسان الشاعر القاسم هتميل( ):
يهنى دثيــــــنة أن الله عـــوضــها . من الدأدي بيض البيض والغـرر .
غر الجحافل حصنها وما عــلمـوا . أن الزجاجة لاتقوى على الحـــجر .
أرسلت صاعقة في غيــــم بارقــة . تردي وتبرق في رعـــداً بلامـــطر .
فسلموا الخيل واعتاضوا بها حمراً . فأعجب على حمــر منهم على حمر .
أعميتم فتمــــــــنوا أنهم خلــصوا . عور العــــيون من للعمي باعــور .
جاؤك يا شمس إرسالا وقد بـــذلوا . لك الحكومة في الأنثــى وفي الذكر .
لكن هذه الهزيمة التي حلت بدثينة لم تثنهم عن الغزو، حيث خرج العجالم إلى غزو لحج وهاجموا قراها نهباً وقتلاً، وتمادوا في إلحاق الضرر بأضرحة الفقهاء والصالحين( )، وخلال الأزمة التي حدث في البيت الرسولي عقب وفاة المظفر يوسف مباشرة بين ابنيه الأشرف عمر (694- 696هـ) وأخيه المؤيد داود (696- 721هـ)على السلطة انضمت الجحافل إلى صفوف الأخير، وشكلت غالبية جيشه يتقدمهم عمر بن سهيل( )، وتقدم بهم المؤيد نحو عدن ثم لحج وأبين واستولى عليهما، وهذه الانتصارات المتلاحقة كانت قد أزعجت الأشرف وأقلقت مضجعه، فنهض ليحشد الحشود ويعزز قواته لمواجهة المؤيد، فحدثت بينهما وقعة في منطقة الدعيس( ), وأسفرت عن هزيمة المؤيد والقبض عليه بعد أن تم نهب معسكره وخزائنه( )، ولعل السبب الرئيس الذي أدى إلى هذه الهزيمة يكمن في خذلان الجحافل وانسحابهم من المعركة وربما بعد أن تبين لهم كثرة خصومهم عدداً وعدة .
وبعد أن تولى المؤيد السلطة خلفاً لأخيه الأشرف سنة 696هـ انقلب على الجحافل وجرد حملة بقيادة أحد أمرائه ويدعى طغرل بن عبدالله المؤيد، وكان حينها أميراً لمنطقة لحج فهجم على الجحافل والعجالم وقتل منهم ما يقارب من أربعين رجلاً سنة 701هـ ( )، وعاود الأمير سيف الدين الكرة وغار عليهم وقتل منهم سبعين رجلاً وقطع عنهم الجامكية( )( ).
وفي سنة 702هـ حل الشريف عماد الدين إدريس مقطعاً لمنطقة لحج خلفاً للأمير سيف الدين فباشر هو الآخر بضرب الجحافل في منطقه الصعيد( )، ثم انسحب الجحافل إلى منطقة صهيب( ) بعد أن قتل منهم جماعة، وتحولوا بعدها للإغارة على السواحل ( سواحل عدن أبين ) وأثاروا الرعب بين الناس، فقصدهم الأمير عماد الدين بعد أن تحالف مع مقطع أبين الأمير بدر الدين محمد بن الحسن، وتمكنا من ردع الجحافل والتوغل إلى عمق دثينة، ثم عادا إلى تامين السواحل بعد أن قتلت قواتهم فارس الجحافل ويدعى إبراهيم بن سعد بن عبد العزيز وجماعة من العجالم( )، وقد يعود سبب الهزائم التي تكبدتها قبائل دثينة إلى تفكك قبائلها، وغياب التحالف المشترك فيما بينها، ذلك أن بعض القبائل آثرت التزام الحياد تجاه الحرب الدائرة حماية لمصالحها الذاتية على الرغم من روابط النسب وعلاقات القربى، كما أن المصالح عينها كانت دافعاً لإقامة أحلاف منفصلة ومتواضعة تضم قبيلتين أو ثلاث، فضلاً عن حالة اللااستقرار التي تعانيها القبائل بسبب ظاهرة الثار والاقتتال الداخلي مما زاد الوضع تعقيداً، وهذا الأمر تطرق إليه السلطان الرسولي في طرفته( )، حيث ذكر عن تحالف آل عزب وآل علي من جهة، وآل يحيى بن علي والعجمان من جهة أخرى، وأن الطرفين في حالة حرب دائمة والتفوق فيها عادة حليف الطرف الأول، ذلك أن قوة آل عزب تكافئ الطرف الثاني بالإضافة للهياثم، وفي حال واجه آل عزب السلطة الرسولية ألتزم آل علي الحياد لأنهم على حلف مع الدولة، كما امتدت علاقات آل عزب وآل علي إلى المناطق الجبلية وتحالفا مع أهل حصي أصحاب الظاهر، وكذلك العجمان وبني مدقة حالفا أصحاب السرو( )، هكذا إذن كانت تسير الأوضاع القبلية في دثينة بين التمزق والعداء وهو الأمر الذي استغله الرسوليون أيما استغلال.
وعلى الرغم من هذه الحالة التي كانت تعانيها دثينة إلا أنها لم ترفع الراية البيضاء حتى وضعت الحرب أوزارها، ففي سنة 703هـ اجتمع أربعين فارس وألف ومائتين رجل من الجحافل لمهاجمة الأمير عماد الدين إدريس الذي كانت قواته أقل منهم عدد وعدة إلا أن الأمير عماد الدين إدريس تمكن من قلب موازين المعركة لصالحه وتغلب على الجحافل( ) .
وبعد هذه الهزيمة التي تجرعتها الجحافل عاد الأمن والاستقرار إلى المنطقة لمدة سنتين، وعززها السلطان المؤيد عندما أجرى تعديلات إدارية جديدة في أبين، حيث ولى عليها الأمير سيف الدين طغرل، وعزل عنها ابن بهرام , وبعدها ببضعة أشهر أقطعها عماد الدين إدريس بدلاً عن سيف الدين طغرل، ثم قام السلطان بتعديل سياسته تجاه الجحافل وأمر بإعادة الجوامك إليهم بعد انقطاع دام سنوات( ) , ولعل السلطان أراد بذلك استمالة الجحافل إليه وكسب ودهم أملاً في توقف غاراتهم المتواصلة على المدن والقرى والطرقات.
وعلى غير المتوقع نقض الجحافل بنود الصلح الذي لم يدم غير سنة واحدة (شوال 705ـ شوال 706هـ) وغاروا على لحج واشتبكوا مع القوات الرسولية في لخبة( ) والرعارع( )، وسقط منهم أربعين قتيل( ) . ووضعت هذه المعركة حد لغارات قبائل دثينة لبضع سنوات حتى تلقى الأمير عماد الدين إدريس الأوامر بإخماد الفتن في بعض المناطق ومنها بلاد الجحافل سنة 713هـ, فتم تدمير بعض القرى القريبة من صهيب ومن ضمنها مساكن الجحافل( ).
وفي مرحلة صراع المجاهد علي بن داود (721- 764هـ) مع ابن عمه الظاهر عبدالله بن أيوب على السلطة ساندت قبائل دثينة الأول منذ بداية حكمه حتى سنة 723هـ( )، ثم ظهر خلافاً حاداً بين السلطان المجاهد وأحد أمرائه ويدعى شجاع الدين عمر بالبال الدويدار أمير لحج الذي كان يميل إلى الظاهر، ووقفت الجحافل إلى جانبه ضد السلطان الذي أساء استقبالهم في قصره بما لايليق ومعهم آنذاك ابن الدويدار، فكان الجحافل ضمن قوات ابن الدويدار التي اتجهت للسيطرة على عدن، وهنا طالت أيديهم بيوت ألعامة والخاصة نهباً وسلباً وتخريباً( ), لكن ابن الدويدار قتل في عدن بعد أن احتال عليه أمير المدينة نجم الدين يوسف الصليحي وسرعان ماتفرقت عنه الجحافل( )، بيد أن الأمر لم ينتهي بمصرع ابن الدويدار، حيث وصل خبر مقتله إلى أخيه الذي كان في لحج، فنهض للانتقام من ابن الصليحي واشتبك الطرفان في الرعارع، والغريب في الأمر أن الجحافل كانوا ضمن قوات ابن الصليحي، ولعل مشاركتهم في هذه الحملة كانت على مضض، وقد تداركوا هذا الأمر بالانسحاب التدريجي من ميدان المعركة، وتركوا ابن الصليحي وحيداً ليتجرع مرارة الهزيمة( ).
وعقب هذه المعركة نزل السلطان المجاهد إلى لحج، واجتمع بالجحافل ودعاهم للهدنة، فاستجابوا له، ونالهم مانالهم من كرم السلطان وجوده( )، وتحت سقف هذه الهدنة أغلق الرسوليون ملف قبائل دثينة لمدة سبعين عاماً تقريباً ومن ضمنها فترة حكم الأفضل العباس بن علي (764- 778هـ) حتى أواخر عهد الأشرف الثاني إسماعيل بن العباس (778- 803هـ)، ثم عاد الجحافل إلى مسرح الأحداث مجدداً سنة794هـ وغزو لحج ونهبوها، ثم هاجموها كرة أخرى سنة 796هـ بقيادة شيخهم جعفر الجحفلي، وكانت اشد وطأة من سابقتها، فاضطر أميرها آنذاك القاضي شجاع الدين العلوي الخروج لمقاتلتهم، وكان القاضي على صلة وثيقة بالشيخ جعفر، فتقابلا في ميدان المعركة وجهاً لوجه، غير أن الجحفلي تحاشى قتاله وانسحب بمن معه من الجحافل ( ).
وبعد انقضاء سنة واحدة استأنف الجحافل الغزو وهاجموا قافلة كانت متجهة إلى عدن ونهبوها( )، وفي السنة ذاتها خرج إلى الجحافل الأمير بدر الدين محمد بن زياد ومعه العسكر السلطاني فقتل منهم جماعة وجز رؤوسهم عدا الأسرى( ).
ولم يكن عهد السلطان الناصر أحمد بن إسماعيل (803- 827هـ ) أفضل من سابقيه مع الجحافل حيث شهدت سنة 808هـ عدد من الأحداث، منها تلك الغزوة التي قام بها الجحافل على لحج، فألحقوا بها الخراب بل وامتدت أيديهم على وقف الزوايا( ) ونهبوها, ناهيك عن قطع طرق المؤدية إلى عدن والخارجة منها مما أحدث شللاً كاملاً للحركة التجارية الداخلية , وانتشر الخوف والهلع وضاقت أحوال الناس، فكان لزاماً على السلطان التدخل واتخاذ الحلول العاجلة إزاء هذه الأزمة، وبالفعل أمر بتكليف القاضي عفيف الدين بن العلوي وأخوه القاضي شجاع الدين للخروج للجحافل وانضمت إليهما جموع من يافع( )، وفي المقابل كانت الجحافل قد أعدت العدة استعداداً لهذه المواجهة بنصب الكمائن، وتمكنوا من قتل القاضي عفيف الدين وأخيه وعدد من العسكر، ومن يافع قتل عدد غير قليل( )، وكان وقع هذه الهزيمة على السلطان الناصر كالصاعقة، وحينها لم يكن أمامه من خيار غير الخروج إليهم بنفسه، فزحف إليهم حتى وصل عقر دارهم دثينة، وعلى الرغم من المقاومة الشديدة التي أبدتها القبائل لصد السلطان إلا أنه تمكن من دخول بلادهم بحد السيف وأمر بنهب أموالهم( ).
لم تنم دثينة على ضيم كعادتها فسعت للبحث عن حليف قوي ضد السلطان الناصر، فكانت وجهتهم الإمام الزيدي المنصور بن صلاح بن المهدي( ) فهو الآخر كان يقاوم الرسوليين ويضمر لهم البغض والكراهية، لذا لم يتردد أمام هذا العرض، وأرسل معهم أحد قادته على رأس حملة عسكرية إلى دثينة في سنة 808هـ، ونشبت بين الطرفين معركة أسفرت عن هزيمة الجحافل ومن كان معهم من القوات الزيدية، وعندها لم يكن أمام الجحافل إلا الجنوح للسلم؛ لأنهم دون شك كانوا يدركون أن مهمة الوقوف في وجه القوات الرسولية أشبه بالانتحار إلا أن الأنفة وكبرياء القبيلة كان دائماً ما يتملكهم، فطلبوا من الأمير بهاء الدين الشمسي مقطع أبين مرافقتهم لمصالحة السلطان الناصر، فكان لهم ما أرادوا( ).
وحملت سنة 810هـ بشارات الانتصار لقبائل دثينة على بني رسول حين تمكنوا من إلحاق الهزيمة بالقوات الرسولية التي كان يقودها آنذاك الأمير بدر الدين محمد بن زياد الكاملي( )، وظلت دثينة تتغنى بهذا الانتصار لمدة أربع سنوات، في حين كان السلطان يترقب الفرصة للانقضاض عليهم وتعويض دين الهزيمة التي منيت بها قواته حتى جاءت على أيدي الطواشي جمال الدين مفتاح الذي تمكن من تشتيت الجحافل في البلاد، وعندها طاب خاطر السلطان، وأمر بضرب الطبلخانة( ) لمدة سبعة أيام تعبيراً عن سعادته بهذا الانتصار( ).
وبعد هذه الهزيمة التي منيت بها الجحافل آثرت الركون إلى السكينة، فوضعوا سيوفهم في أغمادها لمدة أربع سنوات، ثم اصطلح الطرفان خلال زيارة السلطان الناصر لعدن سنة 818هـ( )، وكان من ثمار تحسن هذه العلاقة أن قام السلطان بزيارة بلاد العجالم ومعظم مناطق دثينة وتفقد أحوالها سنة 820هـ ، وفي السنة التالية قام الشيخ جعفر الجحفلي بزيارة السلطان وانعم عليه بالهدايا( ).
وفي عهد السلطان الظاهر يحيى بن إسماعيل (831- 842هـ)عادت الجحافل لممارسة نشاطها بقيادة الشيخ جعفر وغارت على لحج ونهبتها بحجة أن لهم ثمن خيل لم تسلم لهم، فأرادوا تسلمها بالقوة، وآثر السلطان غض الطرف عنهم( )، ثم اتسمت العلاقات بينهما بالسلم والمهادنة نسبياً، ففي سنة 836هـ وفد العجالم على السلطان وشاركوه الحملة التي أعدها لقمع مشايخ الحديدة، كما أبرموا صلحاً سنة 837هـ مع الأمير اختيارالدين محسن الخازندار مقطع أبين( ).
وتعززت العلاقات بين الرسوليين ودثينة من خلال الزيارات المستمرة التي قام بها مشايخ دثينة للسلطان الظاهر وكان أولها في رمضان سنة 837هـ، وأخرى بعدها بشهر واستقبلهم السلطان بمايليق بمكانتهم بل وكساهم وأنعم عليهم( )، وفي زيارة هي الثالثة ضمت مائة وستين فارساً من الجحافل ومعهم الأمير اختيارالدين الخازندار وقدموا له خزانة من من النقد والحرير والتحف وعشرين رأساً من الخيول الدثنية، وآخر زياراتهم للسلطان رأسها الشيخ هجام الجحفلي وأهداه أربعة رؤوس من الخيل الجيدة( ).
المبحث الثالث:
أسباب خروج قبائل دثينة على السلطة الرسولية:
قبل الدخول في تفاصيل الأسباب والدوافع التي وقفت خلف خروج قبائل دثينة على السلطة الرسولية والمواجهات الحربية التي جرت بين الطرفين يعترضنا استفسار جدير بالإجابة وهو: هل نطلق على خروج قبائل دثينة على السلطان الرسولي كلمة تمرد أم غزو ؟
للإجابة على هذا السؤال نقول: إن الفعل هنا يعتمد على النية، ومن وجهة نظري إن غريزة وطبيعة هذه القبائل كانت غالباً ماتميل إلى الغزو لتحقيق المكاسب المادية فقط، ولم تكن تعني في خروجها تمرداً على السلطة الرسولية، فهم قبائل تميل للبداوة أكثر منها للحضر، وقد اعتاد أبنائها الطاعة للشيخ وفق الأعراف والتقاليد القبلية( )، وتأبى أنفة وكبرياء القبيلي الخضوع لسلطة غيرها، وحسبي أنهم لايفقهون شيئاً عن السياسة، أوماذا تعني السلطة المركزية وماهي واجبات الرعية نحوها، فمن خلال استقراء أحداث الموجهات الحربية بين الطرفين نجد أن هذه القبائل لم تقم بمهاجمة ثكنات الرسوليين العسكرية أو التعدي على مقرات المقطعين الولاة، وإن حدثت بينهما معركة فهي من وجهة نظرهم لاتبتعد عن كونها من معارك الثار لقتلاها أو لاستعادة كبريائها ومكانتها، وكان يتم التعامل مع القوات الرسولية وكأنها إحدى القبائل التقليدية في المنطقة، لذا فإن كانت قبائل دثينة تحمل صفة المعارضة بمفهومها السياسي المعروف لما تعرضت لمصالح الناس بالسلب والنهب في عدن ولحج وأبين، وتمادت في تخريب الزوايا وأضرحة الصالحين، وبناءً على ذلك يمكن القول مرة أخرى: إن خروجها لم يكن يحمل الطابع السياسي المناهض للسلطة، أو يعبر عن رفض سياسة معينة، أو رد فعل تجاه مراسم مجحفة فرضتها السلطة بالقوة كالزيادة في الضرائب والمكوس، ثم انعكست سلباً على أوضاع القبائل وأضرت بمصالحها كحال أهل تهامة، بل أن قبائل دثينة لم تكن تدفع هذه الواجبات للمقطعين على الإطلاق، والحال ذاته كان متبعاً مع من سبقهم من الحكام الأيوبيين، إذاً ليس هناك ثمة تفسير منطقي لخروج هذه القبائل غير أنه كان سلوكاً لاإنساني نابع من ثقافة الغزو التي تأصلت في أذهان القبيلة منذ زمن بعيد.
ومهما يكن من أمر، فإن واقع خروج هذه القبائل للغزو يعد من وجهة نظر السلطة الرسولية عصياناً وتمرداً عليها مهما اختلفت النيات وتعددت المبررات، ذلك أن نتائج خروجها كانت وخيمة وكارثية على المجتمع والاقتصاد، وفي ضوء هذا التفسير يمكن عرض أسباب خروج قبائل دثينة على السلطة الرسولية بمايأتي:
الأسباب السياسية:
1) سوء سياسة غالبية السلاطين الرسوليين تجاه قبائل دثينة( )، ولجوءهم إلى استخدام العنف المفرط كوسيلة مثلى لحسم أي خلاف أو أي تمرد، وهذا ليس عيباً من وجهة نظر الحكام فقد صار وضع السيف على رقاب الرعية المخالفين نهجاً لدى حكام الدول اليمنية في ذلك العصر، مع أنه في الواقع لايعبر إلا عن قلة كفاءة هذا السلطان أو ذاك وعجزه عن معالجة مشاكل وقضايا الرعية بالطرق الودية والسلمية.
2) قلة خبرة الولاة أو المقطعين الذين تولوا منطقتي أبين ولحج في التعاطي والتعامل المرن مع قبائل دثينة خلال عهد بني رسول عدا أواخره لاسيما عندما تولاهما الأمير اختيارالدين محسن الخازندار الذي عمل على تهدئة واستقرار المنطقة، ونجح إلى حد كبير في ترغيب القبائل بالسلطان الرسولي متبعاً سياسة اللين والمهادنة، واستخدام ورقتي الأموال والهدايا لإصلاح ماأفسده الولاة السابقين( )، وتمكن خلال فترة ولايته من إيقاف سلسلة المواجهات الحربية الدامية التي أرهقت الطرفين معاً.
3) استغلال قبائل دثينة للأزمات السياسية التي تنشى في البيت الرسولي بين الحين والآخر لاسيما خلال فترات صراعهم على السلطة، ولعل الخلاف الذي نشب بين الأشرف وبين المؤيد على السلطة أبرز مثال على ذلك، حيث انحازت الجحافل إلى صف المؤيد ضد الأشرف بغية تحقيق المكاسب المادية، كما استغلت قبائل دثينة أيضاً خلافات الأمراء والمقطعين ابتغاء تحقيق المكاسب عينها، وتجلى ذلك خلال أزمة الأمير ابن الدويدر.
الأسباب الاقتصادية:
1) لعل القحط والمجاعة كانتا عاملاً مهماً في دفع القبائل للخروج والتقطع على طريق القوافل التجارية، ونهب القرى والمدن، وعلى الرغم من أن المصادر التي بين أيدينا لم تذكر ذلك صراحة إلا أنه من المؤكد أن بلاد دثينة كان يصيبها ما يصيب مناطق اليمن من الجدب والقحط بين الحين والآخر، بل أن المناطق القريبة من حواضر الرسوليين كانت تنال حضاً طيباً من مكارم السلطان خلال مواسم الجفاف والمجاعات، في حين لايتلقى من كان بعيداً عنهم شيئا يذكر، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على عدم اهتمام السلطة الرسولية بأوضاع القبائل النائية ومنها قبائل دثينة.
2) قطع العطايا والجوامك عن زعماء ومشايخ قبائل دثينة كان عاملاً رئيساً في شق عصا الطاعة والخروج على السلطان الرسولي، وبرز هذا الأمر بوضوح خلال سلسلة غزوات الجحافل والتي لم تكن تتوقف إلا في حال إعادتها إليهم، فالجوامك من وجهة نظرهم إلى جانب قيمتها المادية فلها أيضاً دلالاتها المعنوية، وتعبر عن وجاهتهم في المنطقة ومكانتهم الخاصة عند السلطان.
الأسباب الاجتماعية:
1) إن الدافع الرئيس الذي وقف خلف غارات قبائل دثينة يكمن في نزعة القبيلة وغريزتها الفطرية في حماية كيانها ونفوذها خصوصاً عندما تستبدل السلطة ثوبها بثوب آخر جديد، ( انتقال الحكم من الأيوبيين إلى الرسوليين ) فتقوم القبيلة بالمقابل باستبدال سياستها إزاء هذا الوضع الجديد وتسلك طريق التحدي الهجومي المحفوف بالمخاطر بهدف التعبير عن مكانتها الاجتماعية التي طالما دأبت على بنائها خلال تاريخها العريق، وبمعنى آخر فإن خروجها على السلطة أشبه بالرسائل لشد انتباه الحاكم إليها.
2) لايمكن الجزم بالقول بان قبائل دثينة كانت عبثاً تغزو وتقاتل مالم يكن لديها هدفاً تغامر لتحقيقه، فبالنظر إلى حجم الدماء التي سفكت وعدد الأنفس التي أزهقت في ميادين القتال ندرك تماماً أن هناك ثمة هدفاً إنسانياً يرقى إلى مستوى تلك التضحيات ألا وهو نزعة البقاء وإثبات الوجود في ظل سلطة لاتعترف إلا بالكيانات القوية، ولاتقيم لمن دونها وزناً ولاأهمية.
3) التخلف والجهل ونزعة العصبية، فضلاً عن غياب الوازع الديني، من العوامل المهمة التي ساهمت في إذكاء روح الغزو وإمعان القبيلة في السلب والنهب والتخريب.
نتائج البحث:
سياسياً:
1) كانت قبائل دثينة أشبه بالشوكة في جنب الحكام الرسوليين، ولطالما أقلقتهم خلال عهود حكمهم لليمن التي تمتد لقرنين وثلث القرن من الزمن، حيث أعلنت خروجها عن طاعة السلطان الرسولي عشرين مرة تقريباً، واستعصى عليهم إخمادها بقوة السلاح واستخدام مختلف أساليب القهر والإذلال، وكلفت خزينة الدولة مبالغ طائلة فضلاً عن سقوط الضحايا من الطرفين.
2) عدم تكافئ الطرفين في العدة والعتاد، وتفكك القبائل وعدم توحدها من أبرز العوامل التي وقفت خلف هزائم دثينة من قبل القوات الرسولية.
3) انهارت الدولة الرسولية سنة 858هـ ، فيما تابعت قبائل دثينة مسيرتها التاريخية مع حكام الدولة الطاهرية (858- 945هـ).
اقتصادياً:
1) أثرت التقطعات التي قامت بها قبائل دثينة على طرق القوافل من وإلى عدن في اضطراب الحياة التجارية وشكلت لها تهديداً حقيقياً لاسيما القوافل المحملة بخزائن خراج ميناء عدن.
2) تعد منطقتي لحج وأبين أكثر المناطق تضرراً من غزوات قبائل دثينة، وفي المقابل لحق ببعض مناطق دثينة الكثير من الضرر من قبل القوات الرسولية طالت زراعاتهم وطعامهم في غالب الأحيان .
3) لم تشكل غنائم السلب والنهب مورداً رئيساً لاقتصاد دثينة، بل اعتمدت على مداخيل الزراعة والرعي، فضلاً عن اشتغال بعضهم بالتجارة كآل علي من الجحافل الذين كانوا أحلاف السلطان المظفر يوسف بن عمر، بالإضافة إلى شهرة دثينة بتجارة الخيل والهجن العشارية التي كان يعول عليها في الغزو.
اجتماعياً:
1) لم تشارك كل قبائل دثينة في الخروج على السلطة الرسولية بل بعضها لاسيما قبائل الجحافل المذحجية من آل علي بن يحيى كبني مدقة، وآل سالم، وقبيلة العجمان، وقبيلة الهياثم الحميرية، وقبيلة العجالم، ونالت الجحافل نصيب الأسد في تبني معظم المواجهات الحربية.
2) إذا كانت المفاهيم القبلية في ذلك العصر ترى في هذه الحروب الدموية إنجازاً حقيقياً يرضي غرورها وكبريائها، إلا أنها في حقيقة الأمر لم تجلب لأهلها غير الويلات والمآسي.
3) لم تدل الهزائم المتعاقبة التي تلقتها قبائل دثينة على أيدي القوات الرسولية على ضعف القبيلة فحسب، بل أظهرت هشاشة العلاقات القبلية، ونمو نزعة المصالح الذاتية فوق الأعراف والتقاليد القبلية، وتجلى ذلك بوضوح في التزام بعض قبائل دثينة بموقفها الحيادي تجاه المواجهات الحربية التي يخوضها بني عمومتهم ضد الرسوليين، وذلك بسبب غياب التحالف المشترك بين جميع قبائل دثينة الغير مبرر، فإذا حال النسب دون قيامه فإن وحدة الأرض والجغرافيا كانت كافية لإقامة هذا الحلف.
4) أن مظاهر النعرات العصبية والحمية القبلية، وغياب الوازع الديني لم تكن سمة ذلك العصر فحسب، بل هي لعمري داء توارثته قبائل اليمن كلها جنوباً وشمالاً حتى العصر الراهن، وهي السبب الرئيس الذي أعاقنا عن التقدم واللحاق بركاب الحضارة.
فهرس الهوامش:
المصـــادر والمراجـــع:
المخطوطــــــات:
1) الخزرجي، أبوالحسن علي بن الحسن، العسجد المسبوك فيمن ولي اليمن من الملوك، مخطوط مصور، ط2، وزارة الاعلام والثقافة، مشروع الكتاب 6/1 ، صنعاء،
2) نقش النصر رقم: RES3945
المصادر المطبوعة:
3) بامخرمة، الطيب بن عبدالله، تاريخ ثغر عدن، ج2، تح: اوسكار لوفجرين، دار التنوير، بيروت، 1986م.
4) الجندي، عبدالله بن محمد بن يوسف، السلوك في طبقات العلماء والملوك، ج2، تح: محمد بن علي الأكوع، وزارة الإعلام، صنعاء، دار التنوير، بيروت، 1989م.
5) ابن الجوزي، أبو الفرج عبدالرحمن، ج2، تح: احمد بن علي، دار الحديث، القاهرة، 2009م.
6) ابن حاتم، الأمير بدر لدين محمد بن حاتم اليامي، السمط الغالي الثمن في أخبار الملوك الغز باليمن، تح: ركس سمث، كمبردج، 1974م.
7) الحمزي، عماد الدين إدريس بن علي بن عبدالله، كنز الأخيار في معرفة السير والأخبار، تح: عبدالمحسن مدعج المدعج، مؤسسة الشراع العربي، الكويت، 1992م.
8) الحموي، ياقوت، معجم البلدان، مج2، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1988م.
9) الخزرجي، العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية، ج1،2 ، صححه ونقحه: محمد بسيوني عسل، دار صادر، بيروت، مط الهلال، مصر، 1911م.
10) ابن الديبع، عبدالرحمن بن علي، قرة العيون بأخبار اليمن الميمون، تح: محمد بن علي الأكوع، مكتبة الإرشاد، صنعاء، 2004م.
11)ابن رسول، السلطان عمر بن علي، طرفة الأصحاب في معرفة الأنساب، دار الكلمة،
صنعاء، 2004م
12)السمعاني، الأنساب، ج5، تقديم وتعليق: عبدالله عمر البارودي، دار الجنان، 1988م.
13)ابن عبدالمجيد، تاج الدين عبدالباقي، بهجة الزمن في تاريخ اليمن، تح: مصطفى
حجازي، دار العودة، بيروت، 1985م.
14) العبدلي، الأمير أحمد فضل، هدية الزمن في أخبار ملوك لحج وعدن، تح: خالد
الأذرعي، مكتبة الجيل الجديد، صنعاء، 2004م.
15)القلقشندي، أحمد بن علي، صبح الأعشى في معرفة الإنشا، ج4، مط الأميرية، القاهرة،
1915م.
16)الكبسي، محمد بن إسماعيل، اللطائف السنية في أخبار الممالك اليمانية، تح: خالد
الأذرعي، مكتبة الجيل الجديد، صنعاء، 2005م.
17)ابن المجاور، جمال الدين يوسف بن محمد، صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز
المسماة بتاريخ المستبصر، اعتنى بتصحيحها: أوسكار لوفجرين، دار التنوير، بيروت،
1986م .
18)مجهول، تاريخ الدولة الرسولية، تح: عبدالله الحبشي، دار الكاتب العربي، دمشق،
1984م.
19)ابن المقرى، شرف الدين إسماعيل بن أبي بكر، عنوان الشرف الوافي في علم الفقه
والتاريخ والنحو والعروض والقوافي، تح: عبدالله خادم الأنصاري، مكتبة الإرشاد،
صنعاء، 1996م.
20)المقريزي، تقي الدين أحمد بن علي، الذهب المسبوك في ذكر من حج من الخلفاء
والملوك، تح: جمال الدين الشيال، القاهرة، 1934م.
21)الهمداني، الحسن بن أحمد، صفة جزيرة العرب، تح: محمد بن علي الأكوع،
مكتبة الإرشاد، صنعاء، 1990م.
22)يحيى بن بن الحسين بن القاسم، غاية الأماني في أخبار القطر اليماني، ج1، تح:
عبدالفتاح عاشور، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1968م.
المراجـــــع:
23)الجرو، أسمهان سعيد، موجز التاريخ السياسي القديم لجنوب شبه الجزيرة العربية(اليمن
القديم)، مؤسسة حمادة للخدمات والدراسات الجامعية، أربد، 1996م.
24)الحبشي، عبدالله محمد، الصوفية والفقهاء في اليمن، مكتبة الجيل الجديد، صنعاء ،
1976م.
25)الحجري، محمد بن أحمد، مجموع بلدان اليمن وقبائلها، مج1، تح: إسماعيل بن علي
الأكوع، مكتبة الإرشاد، صنعاء، 2004م .
26)دهمان، محمد أحمد، معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي، دار الفكر
المعاصر، دار الفكر، دمشق، 1990م .
27)عبدالعال، محمد أحمد، بنو رسول وبنو طاهر وعلاقة اليمن الخارجية في عهدهما،
الهيئة المصرية للكتاب، الإسكندرية، 1980م .
28)أبو غانم، فضل علي أحمد، البنية القبلية في اليمن بين الاستمرار والتغيير، مط الكاتب
العربي، دمشق، 1985م .
29)لقمان، حمزة علي إبراهيم، تاريخ القبائل اليمنية، دار الكلمة، صنعاء، 1985م .
30)المقحفي، إبراهيم أحمد، معجم البلدان والقبائل اليمنية، دار الكلمة، صنعاء، 2002م .
الدراسات العلمية:
31)فرحان، عباس علوي حسين، عدن في عهد الطاهريين (858-945هـ)، رسالة دكتوراه
(غير منشورة)، كلية الآداب /جامعة صنعاء، 2011م .
32)هديل، طه حسين، التمردات القبلية في عصر الدولة الرسولية وأثرها على الحياة
العامة، (رسالة ماجستير)، دار الوفاق للطباعة والنشر، عدن، 2012م
* إعداد
د / عباس علوي حسين فرحان
أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامي المساعد
كلية الآداب / جامعة عدن
0 التعليقات:
إرسال تعليق